موانع الشهادة.
سؤال أيضاً من الأخ ج. ق الطوهري من محافظة جازان في المملكة العربية السعودية عن موانع الشهادة.
الشهادة هي البيان والإخبار؛ لأن الشاهد يبين عند الحاكم الحق من الباطل(1). وقد عظَّم الله أمرها فوصف المؤمنين بأنهم يحافظون عليها ويؤدونها، في قوله تعالى
والذين هم بشهاداتهم قائمون
(2). كما وصفهم بأنهم لا يشهدون إلا بالحق في قوله -عز ذكره-
والذين لا يشهدون الزور
(3). ومن تعظيمها أمره لعباده توثيق معاملاتهم بالشهادة، في قوله -جل ثناؤه-
وأشهدوا إذا تبايعتم
(4). وأمره كذلك لهم بأدائها في قوله تعالى
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا
(5). ووصف الكاتم لها بالآثم، في قوله -عز ذكره-
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه
(6). وكما عظم الله أمرها عظمه نبيه ورسوله محمد في قوله للذي جاء ليشهد: (هل ترى الشمس؟) فلما قال نعم قال: (على مثلها فاشهد)(7).
ولأهمية الشهادة وعظم أمرها فصَّل الفقهاء -رحمهم الله- ذكر موانعها، وبينوا من تقبل شهادته ومن لا تقبل، على خلاف بينهم في بعض الموانع؛ ففي مذهب الإمام أبي حنيفة لا تقبل شهادة الأعمى وقال بعض الأصحاب تقبل فيما يجري فيه التسامع كمسألة النسب والموت، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة. وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة تقبل شهادته إذا كان بصيراً وقت التحمل، وذلك لحصول العلم بالمعاينة. كما لا تقبل شهادة من أقيم عليه الحد بسبب القذف ولو تاب، عملاً بقول الله تعالى
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا
(1). وخالف في ذلك الإمام الشافعي وقال بقبول شهادته بعد توبته؛ لأن الله استثنى التائبين في قوله تعالى
إلا الذين تابوا
(2).
ومن موانع الشهادة شهادة الوالد لولده وولد ولده، كما لا تقبل شهادة الولد لأبويه وأجداده، كما لا تقبل شهادة الزوج لزوجته أو الزوجة لزوجها خلافاً للإمام الشافعي الذي يرى قبول هذه الشهادة لتميز المال بينهما، كما لا تقبل شهادة الأجير لآجره، والمراد به الذي يعد ضرر آجره ضرراً لنفسه، ونفعه نفعاً لنفسه. ومن موانع الشهادة شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما. كما لا تقبل شهادة رديء الأحوال في سلوكه في نفسه، ومدمن شرب الخمر، والمغنين والنائحين، ومن يلعب بالطيور، وكل من يأتي باباً من الكبائر كأكل الربا وتعاطي القمار وتفويت الصلاة. ومن الموانع أيضاً ترك المروءة كالأكل على الطريق والبول فيه(1).
وفي مذهب الإمام مالك مثل هذه الموانع، وقد أجملها الأصحاب في عدة شروط: منها وجوب توافر العدالة والمروءة في الشاهد، بأن يكون هذا ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم بعيداً عن الريب والمآثم، وضابط ذلك ألا يأتي ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل. ومن ذلك أرباب الحرف الدنيئة كالكناس والدباغ والحجام والحائك ومن على شاكلتهم إذا كان عملهم في هذه الحرف على جهة الاختيار لها ممن لا يليق به.
ومنها انتفاء العصبية وما يلحق بها في تطرق التهمة من جهة النسب والسبب، كشهادة الولد لوالده والولد لولده. ومنها انتفاء العداوة، فلا تقبل شهادة العدو على عدوه خاصة إذا كانت في أمور الدنيا، أما إن كانت العداوة غضباً لله فتقبل. ومن هذه الشروط انتفاء الغفلة، فالأصل أن يكون العدل يفهم ما يشهد فيه، فالمغفل لا يؤمن في شهادته فيذهب عليه بعضها أو يلقن فيقبل التلقين.
ومنها الحرص على زوال التغير اللاحق بالشاهد من جهة إظهار البراءة مما رمي به، فمن ردت شهادته لفسق فتاب ثم شهد بشهادته التي رد فيها لم تقبل منه؛ لأنه يدفع بها عار التكذيب، ومن جهة أخرى قصد التأسي بأن يجعل غيره مثله ليتسلى بذلك عند عجزه عن براءة نفسه(1).
وفي مذهب الإمام الشافعي مثل هذه الشروط مع إضافة بعض الموانع كمن يهجو ويفحش في القول، أو يمشي وهو مكشوف الرأس، وكذا من يكثر الحكايات المضحكة، وفي امتهان المهن التي لا تليق بمثل الشاهد، كالكناسة، فهذا لا تقبل شهادته، فإن اعتاد هذه المهنة وكانت حرفة أبيه قبلت(2).
وفي مذهب الإمام أحمد مثل هذه الشروط مع تفصيل أو زيادة مقاربة، ومن ذلك عدم قبول شهادة الصبيان، وعدم قبول شهادة الأخرس، ومن لا يؤدي زكاة ماله، ومن يخرج في طريق المسلمين ما يؤذيهم. وفي أقوال الأصحاب عدة أفعال تعد مانعة للشهادة، ومن ذلك من يمد رجليه في مجمع من الناس، أو ينام بينهم، أو يكشف من بدنه ما العادة تغطيته، وكذا من يمضغ العلك، والطفيلي ونحو ذلك من الأفعال التي تعد من الدناءة(3).
وخلاصة ما ورد في مذاهب الأئمة الأربعة عن موانع الشهادة مامناطه القدرة الجسدية؛ فالأعمى الذي يشهد على أمر يجب الإبصار فيه لا تقبل شهادته لانتفاء قدرته، والمقعد الذي يشهد على أمر لم يره أو يشهده يعد مانعاً لشهادته وهكذا. ومنها ما مناطه الدين؛ فمن أفسد دينه بترك الفرائض وارتكاب المحرمات لا يؤمن أن يشهد بالباطل ويغمط الحق؛ لأن من ليس له مانع من دينه فليس له مانع من ارتكاب أي أمر محرم.
ومن هذه الموانع ما مناطه العقل؛ فمن تغلب عليه الغفلة لا يطمئن إلى شهادته؛ لأن الشهادة بيان لواقع، ومن يختلط عليه الأمر في فهمه لا يقدر على هذا البيان. ومنها ما مناطه المروءات، وهذه -وإن اختلفت حولها الأفهام- إلا أن من يكون شاذاً في سلوكه عن أمثاله يكون مظنة الطعن في شهادته من قبل غيره.
ومن هذه الموانع ما مناطه القرابة والعلاقة؛ فالشاهد يجب أن يكون متجرداً من ميل النفس وهواها، وهذا يقتضي نفي شهادة القريب لقريبه والتابع لمتبوعه .. وهكذا.
قلت: وفي سياق الحرص على سلامة الشهادة ونفي كل شائبة عنها حقيقة أم محتملة اهتم الفقهاء -رحمهم الله- بالعرف السائد في أزمانهم، فنفوا شهادة أصحاب حرف معينة، ومن ذلك الجزارون والكناسون ومن يلعب بالحمام، ومن يأكل في السوق، ومن يمشي حاسر الرأس، بل بالغوا في ذلك فنفوا شهادة من يصاب بالنعاس بين أناس جالسين.
قلت: فلما كان العرف مناط هذا المنع في أزمان الفقهاء، فلا ينبغي أن يكون مانعاً أبدياً لشهادة هؤلاء إذا تغير، وقد تغير بالفعل فأكثر الناس في هذا الزمان يمشون وهم حاسروا الرؤوس، ويأكلون الطعام في المطاعم المنتشرة في الأسواق، والجزارة والكناسة ونحوها أصبحت تدار بالآلات، وأصبح بيع الحمام وشراؤه تجارة متداولة .. وهكذا، فعلى حاكم القضية إذاً أن يقدر هذا التغير؛ لأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، ناهيك بتغير العرف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان.