عدد الرسائل : 2011 العمر : 47 الموقع : https://aleraqi.alafdal.net العمل/الترفيه : الرئيس العام لمجموعة منتديات عائلة العراقي المزاج : توكلت علي الله في عملي ورزقي مزاجي : رقم العضوية : رئيس المنتدي تاريخ التسجيل : 07/08/2008
موضوع: الفروق في اللغة الجمعة يونيو 18, 2010 3:49 am
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فكثيراً ما يستغرب الإنسان ويقول إذا رأى كلمتين مترادفتين ثم بين له أحد العلماء أن بينهما فرقا-: لم وضعت الكلمات المترادفة التي تدل على معنى ظاهره التوافق وباطنه التخالف؟ وهذا سؤال وجيه قد سأله أحدهم الإمام التوحيدي، فأجاب عن ذلك في كتابه الهوامل والشوامل (ج1/ ص1)
فقال: قلت أعزك الله: ما الفرق بين العجلة والسرعة؟ وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين إذا توافقتا على معنى، وتعاورتا غرضاً فرق، لأنك تقول: سر فلان وفرح، وأشر فلان ومرح، وبعد فلان ونزح، وهزل فلان ومزح، وحجب فلان وصد، ومنع فلان ورد، وأعطى فلان وناول، ورام فلان وحاول، وعالج فلان وزاول، وذهب فلان ومضى، وحكم فلان وقضى، وجاء فلان وأتى، واقترب فلان ودنا، وتكلم فلان ونطق، وأصاب فلان وصدق، وجلس فلان وقعد، ونأى فلان وبعد، وحضر فلان وشهد، ورغب عن كذا وزهد. وهل يشتمل السرور والحبور، والبهجة والغبطة، والفكه والجذل والفرح، والارتياح، والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة؟ وخذ على هذا؛ فإن بابه طويل، وحبله مثنى وشكله كثير. فإن كان بين نظيرين من ذلك يُفَصَّل معنى من معنى، وُيقرّ مراد من مراد، ويبين غرض من غرض، فلم لا يشترك في معرفته، كما اشترك في معرفة أصله؟.. وعلى هذا فما الفرق بين الغرض والمعنى والمراد، وها هو ذا وقد تقدم آنفاً؟ وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت، وألبس الفرق بين نطق وتكلم، وبين سكت وصمت؟ الجواب: قال أبو علي أحمد بن محمد مسكويه: لما كنا نحتاج في الجواب عن هذه المسألة إلى ذكر السبب الذي من أجله احتيج إلى الكلام المصطلح، عليه، والحاجة الباعثة على وضع الأسماء الدالة بالتواطؤ، والعلة الداعية إلى تأليف الحروف التي تصير أسماء وأفعالا وحروفاً بالاتفاق والاصطلاح، والأقسام التي تعرض لنا بموجب حكم العقل قدمنا بيان ذلك أمام الجواب؛ ليكون توطئة له، وليسهل علينا هذا المطلب، ويبين عن نفسه، ويعين على ما اعتاض منه فأقول: إن السبب الذي احتيج من أجله إلى الكلام هو أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في حياته، ولا بالغ حاجاته في تتمة بقائه مدته المعلومة، وزمانه المقدر المقسوم احتاج إلى استدعاء ضروراته في مادة بقائه من غيره، ووجب بشريطة العدل أن يعطى غيره عوض ما استدعاه منه، بالمعاونة التي من اجلها قال الحكماء: إن الإنسان مدني بالطبع. وهذه المعاونات والضرورات المقتسمة بين الناس، التي بها يصح بقاؤهم، وتتم حياتهم، وتحسن معايشهم، هي أشخاص وأعيان من أمور مختلفة، وأحوال غير متفقة، وهي كثيرة غير متناهية، وربما كانت حاضرة فصحت الإشارة إليها، وربما كانت غائبة فلم تكف الإشارة فيها، فلم يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح، ليستدعيها بعض الناس من بعض، وليعاون وكان الباري جل وعز بلطيف حكمته، وسابق علمه وقدرته، قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة، وأوسعها قدرة على التصرف، ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس، ملائما لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية. ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً، وجميعها متناهية محصاة؛ لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة، فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة. ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير، وهي: أن يتفق اللفظ والمعنى معاً، أو يختلفا معاً، أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني، أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني، أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي. وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية، وتكلم عليها المفسرون وسموها المتفقة، والمتباينة، والمتواطئة، والمترادفة، والمشتقة، وهي مشروحة هناك، ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضي قسماً واحداً منها، وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني، وهي المسماة المتباينة، فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها، وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول، وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه. وقد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة جداً، وإنها بلا نهاية. فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ، والمركبات منها، فمتناهية محصورة محصاة بالعدد. ومن الأحكام البينة والقضايا الواضحة ببداية العقول، أن الكثير إذا قسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة لا محالة، فمن ههنا حدث الاتفاق في الاسم، وهو أن توجد لفظة واحدة دالة على معان كثيرة، كلفظة العين الدالة على العين التي يبصر بها، وعلى عين الماء، وعين الركبة، وعين الميزان، والمطر الذي لا يقلع أياماً، وأشباهه من الأسماء كثيرة جداً ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال، وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والاعتقادات باختيار، بل باضطراد طبيعي كما بينا وأوضحنا. وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة، وصناعة الشعر والسجع، وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الاقناعات العامية في مواقف الإصلاح بين العشائر مرة، والحض على الحروب مرة، والكف عنها مرة، وفي المقامات الأخر التي يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب، وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين؛ ليتمكن في النفوس، وينطبع في الأفهام لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة، ولاسيما الشاعر؛ فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه، ليصح به وزن شعره، ويعدل به أقسام كلامه. فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة دالة على معنى واحد. وهذا العارض الذي عرض للألفاظ المترادفة كأنه مناسب للقصد الأول في وضع الكلام، مخالف له، وقد دعت الحاجة إليه كما تراه، ولولا حاجة الخطباء والشعراء، وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغوا باطلا. ولما كانت المسألة متعلقة بهذين القسمين من الكلام اقتصرنا على شرحهما، وعولنا- بمن نشط للوقوف على الأقسام الأخر على الكتب المصنفة فيها لأهل المنطق؛ لأنها مستقصاة هناك. وإذ قد فرغنا من التوطئة التي رمناها أمام المسألة، فإنا نأخذ في الجواب عنها فنقول: إن من الألفاظ ما توجد متباينة، وهي التي تختلف باختلاف المعنى، وإليها كان القصد الأول بوضع اللغة. (مثل كتب وذهب). ومنها ما توجد متفقة، وهي التي تتفق فيها ألفاظ واحدة بعينها ومعانيها مختلفة. (مثل العين لها معان كثيرة وهي لفظة واحدة). ومنها ما توجد مترادفة، وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة. (هذا لا يرضى عنه أصحاب الفروق اللغوية لأن وضع كلمتين لمعنى واحد عبث) وهذان القسمان حدثا بالضرورة كما بينا. وربما وجدت ألفاظ مختلفة دالة على معان متقاربة، وأن كانت أشخاص تلك المعاني مختلفة، وربما دلت على أحوال مختلفة ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد، فلأجل ذلك يستعملها الخطيب والشاعر مكان المترادفة، لموضع المناسبة والشركة القريبة بينها، وإن كانت متباينة بالحقيقة، ومثال ذلك ما يوجد من أسماء الداهية، فإنها على كثرتها نعوت مختلفة، ولكنها لما كانت لشيء واحد استعملت كأنها معنى واحد، وكذلك أسماء الخمر، والسيف، وأشباهها. وأنت إذا أنعمت النظر، واستقصيت الرويَّة وجدت هذه الأشياء مختلفة المعاني، ولكنها لما كانت أوصافا لموصوف واحد أجريت مجرى الأسماء الدالة على معنى واحد، وذلك عند اتساع الناس في الكلام، وعند حاجتهم إلى التسمح وترك التكلف والتجوز في كثير من الحقائق. ولولا علمي بثقافة فطنتك، وإحاطة معرفتك، وسرعة تطلعك بفهمك على ما أومأت إليه لتكلفت لك الفرق بين معاني ألفاظ الخمر والشراب والشمول والراح والقهوة، وسائر أسمائها، وبين معاني ألفاظ السيف والصمصام والحسام وباقي ألقابه ونعوته، وكذلك في أسماء الدواهي ونعوتها، ولكني رأيت تجشم ذلك فضلا وإطالة عليك بما لا فائدة لك فيه. فينبغي لنا إذا وجدنا ألفاظاً مختلفة ومعانيها متفقة أو متقاربة أن ننظر فيها، فإن نبهنا على موضع خلاف في المعاني حملنا تلك الألفاظ على مقتضى اللغة وموجب الحكمة في وضع الكلام، فنجعلها من الألفاظ المتباينة التي اختلفت باختلاف المعاني. وهي السبيل الواضحة، والطريقة الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك. فإن لم يقع لنا موضع الخلاف في المعاني ولم يدلنا عليه النظر حملناه على الأصل الآخر، وصرفناه إلى القسم الذي بيناه وشرحناه من الضرورة الداعية في الشعر والخطابة إلى استعمال الألفاظ الكثيرة الدالة على معنى واحد. وهكذا تبين لنا بوضوح أن واضع اللغة جعلها هكذا ليستطيع المتكلم ناثراً أم شاعراً أن يغير حسب حاجته إلى الكلمات المتقاربة المعنى ما شاء منها، لأن الطبع ينفر من تكرار الكلمة الواحدة مرات عديدة. والله أعلم.
أ.د. ياسين بن ناصر الخطيب جامعة أم القرى ــــ مكة المكرمة