الشيك السعودي .. أخيراً استعاد هيبته

يُسجّل قرار السعودية الأخير، على اعتبار الأفعال المنصوص عليها في المادة (118) المعدلة من نظام الأوراق التجارية موجبة للتوقيف، التي تنص على (كل من سحب بسوء نية شيكاً لا يكون له مقابل وفاء قائم وقابل للسحب، أو يكون له مقابل وفاء أقل من قيمة الشيك، وكل من استرد بسوء نية بعد إعطاء الشيك مقابل الوفاء أو بعضه بحيث أصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك، أو أمر، وهو سيئ النية المسحوب عليه بعدم دفع قيمته، يعاقب بغرامة من 100 ريال إلى 2000 ريال، وبالسجن مدة لا تقل عن 15 يوماً ولا تزيد على 6 أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين)، أؤكد أنه يُسجّل ضمن أهم القرارات الإصلاحية ضمن بيئة الاستثمار والعمل التجاري في السعودية. كما تؤكد حيثيات القرار الذي ولّى هيئة التحقيق والادعاء العام التحقيق في جرائم الشيكات، ورفع الدعوى العامة أمام الجهة المختصة بالفصل في تلك الجرائم كأي جريمة أخرى، وفقاً لنظامها ونظام الإجراءات الجزائية، وتوجيه الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية بإصدار قرارها في القضية المنظور فيها خلال 30 يوماً من تاريخ إحالة القضية إليها، وعلى الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية العمل على تشديد العقوبات على مرتكبي جرائم الشيكات، وخصوصاً إيقاع عقوبة السجن والتشهير في الصحف اليومية الصادرة في منطقة مرتكب الجريمة، وتوجيه مؤسسة النقد (البنك المركزي) بوضع الإجراءات الكفيلة بتنظيم إصدار ورقة الاعتراض ومنع البنك المسحوب عليه الشيك من المماطلة في إعطاء حامل الشيك ورقة اعتراض على صرف الشيك، كل ذلك جاء مؤكداً على عزم صارم من الحكومة السعودية معالجة خلل ظل جاثماً على صدر الاقتصاد السعودي أكثر من أربعة عقود، وبدتْ تلك الصرامة واضحة المعالم للأطراف كافة من خلال تشكيل لجنة في وزارة الداخلية تضم (الداخلية، العدل، التجارة والصناعة، الاتصالات وتقنية المعلومات، المالية «مصلحة الجمارك»، مؤسسة البريد السعودي، ومؤسسة النقد العربي السعودي)، وذلك من أجل تفعيل المواد الخاصة بالعناوين في أنظمة الأحوال المدنية والإقامة والسجل التجاري، عبر إلزام كل مواطن أو مقيم أو مؤسسة أو شركة بوضع عنوان رسمي تنتج من المراسلة عليه الآثار القانونية وأن يلتزم كل منهم في حالة تغير ذلك العنوان بتحديد عنوانه الجديد.

ليس من شك في أن نجاح وازدهار النشاط الاقتصادي والتجاري في جميع اقتصادات العالم يعتمد على الكثير من العوامل الأساسية، التي تلعب دورها في تقدم النشاط الاقتصادي الكلي، يأتي في مقدمتها مبدأ الثقة الراسخة في الاقتصاد والأجهزة القائمة على إدارته، وشركاته ومؤسساته ووحداته التي يتشكل منها، والقنوات الرسمية التي يتم من خلالها تبادل المنافع والمصالح والتعاملات القانونية والتجارية والمالية، وهذا المبدأ المهم هو الشرط الأهم في إرساء متطلبات النزاهة والمصداقية في البيئة الواسعة التي تضم جميع تلك الأجهزة الرسمية والمؤسسات التجارية والأفراد والتعاملات التجارية والمالية كافة، والذي يحتل ثقلاً نوعياً لا يُستهان به من وجهة نظر المؤسسات الدولية المالية التي تصدر تقييماتها لمختلف اقتصادات العالم، يتحكم كثيراً في النتائج النهائية ذات العلاقة بتقييم أي اقتصاد، وفقاً لدرجات التقدم أو التأخر على مستوى مدخلات المؤشر العام المحدد لدرجة الثقة في ذلك الاقتصاد من عدمها. من هنا يستمد القرار السعودي الأخير أهميته، كونه يرسخ الثقة في سلامة الآليات والإجراءات المتعلقة بالمستندات والأوراق التجارية المستخدمة في تنفيذ وتسهيل التعاملات المالية والتجارية، وفي مقدمتها بالطبع كما في حالتنا هنا (الشيك) كورقة تجارية تحل محل النقود في التعاملات التجارية للوفاء بالقيمة فوراً. وقد أتاح ظهوره وشيوع استخدامه في عالم التجارة والاقتصاد كثيراً من الانتعاش والازدهار، بما ساعد كثيراً في دعم وتطوير البيئة المالية والتجارية في الاقتصادات الحديثة، بما فيها الاقتصاد السعودي.

تمتد تجربة الاقتصاد السعودي مع الشيك إلى أكثر من 45 عاماً مضت، حينما صدر نظام الأوراق التجارية الذي ينظم تعاملاته ويوثق مصداقيته. ولمزيد من المواجهة الصارمة للمخالفات القانونية التي أصبحت تهدد الثقة في الشيك كورقة مالية لها اعتبارها، أدخلت الحكومة تعديلات مهمة في العام 1409 على مواد نظام الأوراق التجارية المتعلقة بالجزاءات بهدف القضاء على أي تلاعب أو مخالفات تهدد الثقة في الشيك، تم فيها رفع حجم الغرامات من 2000 ريال كحد أقصى إلى 50000 ريال، وعقوبة الحبس من 6 أشهر كحد أقصى إلى 3 سنوات، وفي حال تكررت المخالفة من الجاني خلال 3 سنوات من تاريخ المخالفة الأولى، تتضاعف الغرامة إلى 100 ألف ريال، ومدة الحبس إلى 5 سنوات، كما أُضيفت المادة 121 التي تنص على جواز الحكم بنشر أسماء الأشخاص الذين يصدر بحقهم حكم بالإدانة بموجب هذا النظام ويحدد الحكم كيفية ذلك. كل هذا أصبح قابلاً للتحقق، بل إنه النهاية الحتمية للمخالفين أو المتورطين، وتلك الجزئية التي أحدثت بغياب تطبيقها سابقاً شرخاً كبيراً في جدار الثقة بالشيك! أوصلته إلى مرحلة من عدم المبالاة سقوفاً غير مقبولة من التعثر أو عدم القدرة على السداد أو كفاية الرصيد، بلغت خلال عام واحد فقط 2009 إلى نحو 14 مليار ريال، بعدد شيكات مرتجعة مقارب لنحو 160 ألف شيك، بمتوسط لقيمة الشيك الواحد فاق 87.5 مليون ريال للشيك المرتجع الواحد! شكلت الشيكات من دون رصيد أو الرصيد لا يكفي من الإجمالي ما نسبته 67 بالمئة.

وهنا مربط الفرس، حالة التمادي في عدم المبالاة بالشيك كأداة دفع معترف بها نظاماً وعرفاً، تسربت من المشكلة الرئيسة المتمثلة في عدم تطبيق الأنظمة والقوانين الخاصة بمعاقبة المتورطين في هذه القضية، ما فتح بدوره الطريق على مصراعيه على مزيد من الاستهتار بالشيك! وإحداث الكثير من عدم الثقة فيه، وفي الكثير من التعاملات التجارية والمالية. وهو ما أشارت إليه الأرقام المتوافرة حول التعاملات المالية والتجارية بالشيكات، حيث انخفض عدد الشيكات المستخدمة في تسهيل التعاملات المالية والتجارية في السعودية خلال الفترة 2002-2009 بنحو 7.4 بالمائة، كما لم يشهد تطوراً ملموساً في الاعتماد عليه بما يوازي ارتفاع وتيرة النشاط الاقتصادي شأنه شأن بقية القطاعات. أمام هذه التطورات التي كما أظهرت تطوراتها السلبية السابقة وأنها لم تكن تسير في مصلحة الاقتصاد السعودي، أتى هذا القرار الإصلاحي والاستراتيجي لإعادة الهيبة للشيك السعودي، والذي سنشهد مستقبلاً كما هو متوقع انعكاساته الإيجابية على الثقة في بيئة الأعمال المحلية.

» تحنيط الفراعنة: هل انكشف السر أخيراً في مستشفى إيطالي؟
» «التجارة»: التشهير في الصحف جزاء مقدمي «الشيك بدون رصيد»
» الشيك الذكي هل يقضي على مثيله الورقي؟!