مدائن صالح
تقع الحِجر ” مدائن صالح ” على بعد 22 كـم من محافظة العُـلا ، وتحتل موقعاً استراتيجياً على الطريق
الذي يربط جنوب الجزيرة العربية ببلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر ، ومنها ” أي من الحجر ” يتفرع طريق
التجارة إلى فرعين :احدهما يتجه شمالاً إلى سلع ” البتراء ” وهي العاصمة السياسية للأنباط ويكون ذلك
مروراً بتبوك ، والآخر إلى بلاد الرافدين عبر تيماء . وهذا ما جعل مدائن صالح تُصبح عاصمة اقتصادية مهمة
للأنباط ومقصداً للقوافل التجارية .
يعتقد الكثير من الـناس أن اسـم مدائـن صالـح يعود تسميتهـا إلـى نبي الله صالـح عليه السلام وهذا
خطـأ يجب الانتباه له ، حيث بدأ الناس يتعارفون على هذا المسمى منذ القرن الثامن الهجري ويذكـر ابن ناصر
الدين محمد بن عبدالله نقـلاً عـن أبي محمد القاسم البرزالي ” مدائن صالح التي بالقرب من العُـلا على طـريق
الحاج من الشام بلد إسلامي ، وصالح المنسوبة إليه من بني العباس بن عبدالمطـلب ” . أما قبل ذلك فقد كان يُطلق
عليها مسمى الحجر ولقد ورد ذلك في القرآن الكريم بل وحمل اسمها إحدى سور القرآن .
ذكرالحجر في القرآن والسنة :
ورد ذكر الحجر في القرآن الكريم في أكثر من موضع بل إنه خُصّ بسورة تحمل إسمه وهي سورة الحِجْر يقول الله
تبارك في علاه ” ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( ) وأتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ( ) وكانوا ينحتون
من الجبال بيوتاً آمنين ( ) فأخذتهم الصيحة مصبحين ( ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون …. )
ولم تغفل السنة النبوية المطهرة ذكر الحجر ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مرّ بها وهو متجهاً إلى عزوة تبوك ..
يقول عبدالله ابن عمر رضي الله عنه لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا
أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي ”
ويجب على كل مسلم أن يدرك بأنه يحرم الأكل والشرب في منطقة الحجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
البخاري أن عبدالله ابن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن
لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء ” .
الأنـبـاط هـم مـن عـمّـرَ الـحِـجـر :
لقد ثبت لدى الباحثون أن الأنباط هم أول من استوطن الحِجر ” مدائن صالح ” وقاموا بتعميرها ويرى الباحثون
أن أصل الأنباط من الجزيرة العربية وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الأنباط كانوا بدواً رعاة لا يعـرفون الزراعة
أي أنهم غير مستقرين ، وأنهم لا يشربون الخمر ، وأرضهـم أغلبهـا صخرية وعره .
ومن المعلـوم أن الأنباط قد أسسوا مملكة ضخمة امتدت من عاصمتهم البتراء ” سلع ” شمالاً إلى الحِجر
” مدائن صالح ” جنوباً ولقد كان أقدم دليل يشير إلى وجود الأنباط يعود إلى القرن التاسع الميلادي .
ولقد كان بداية نشأة مملكتهم في مدينة سلع والمسماة حالياً بالبتراء وهي العاصمة السياسية للأنباط ..
وبعدها قرروا السيطرة على طريق التجارة القديم فأسسوا عاصمتهم التجارية ” الحجر ” .
ومن خلال النقوش النبطية المؤرخة في مدائن صالح نستطيع تحديد العمر الزمني الذي ساد فيه حكم مملكة
الأنباط ، إذ أنه يبدأ من بداية القرن الأول قبل الميلاد إلى منتصف القرن الثاني الميلادي .
ولقد واجه الأنباط العديد من المشاكل السياسية والإفتصادية وخصوصاً مع الإمبراطورية الرومانية وكان أكبر
مشكلة وتحدياً كبيراً واجهته مملكة الأنباط والذي أدى إلى سقوطها وإضمحلالها ، هو إكتشاف الرياح الموسمية
في القرن الأول قبل الميلاد والتي تسببت في إعتماد الدول وأصحاب القوافل التجارية بالإعتماد الكلي على
نقل بضائعهم عن طريق البحر الأحمر مما أدى ذلك في تأثر الحجر وهي التي كانت تعتمد على مرور القوافل
من عندها وأخذ الضرائب عليهم .
عند وقوفك إلى جوار نقطة التفتيش التي تخولك بالدخول إلى مدائن صالح سوف تُدهش تماماً حينما تلتفت
إلى يمينك لتُشاهد ضريحاً فريداً من نوعه وحجمه .. هو الأطول وهو الأعرض على الإطلاق وهو الضريح
الوحيد الذي جاء على جبل كامل منفرداً في منطقة مكشوفة لوحده مما زاده جمالاً ونظرة .
إلا أنك حتماً ستندهش أيضاً حين تدخل إلى الغرفة التي نُحت الجبل لأجلها إذ أنك سترى غرفة لا يتجاوز
أطوالها عن 4 م × 4 م وهي خالية من التوابيت الجدارية بعكس الأضرحة الأخرى .. وهذا يدل على أن
فترة إنشاء هذا الضريح كانت متأخرة جداً مما تسبب في عدم إكماله .
الفريد من زاوية أخرى
ولهذا الضريح قصة هي أقرب بالأسطورة ويتم تناقلها على شكل واسع بين بعض الناس وهم يؤمنون بها وغيرها
الكثير من القصص ، بل إن مجرد مناقشتهم في صحتها يعد مشكلة كبيرة ، ولا لوم عليهم أبداً إذ أن أغلب
المناطق التي تتوفر فيها حضارات ضاربة في القدم ، لابد وأن ينشأ لديهم العشرات من القصص والأساطير
وواجبنا نحوها أن نحترمها فهي تُعد ثقافة لا يستحقرها إلا جاهل أو أحمق .
هذه القصة سمعتها من أكثر من شخص تعبتُ كثيراً حتى حصلتُ على بيتا الشعر الموثقان للقصة .
” كان هناك شيخاً حدري لديه فتاة في غاية الحسن والجمال اسمها بثينة، وحتى يبعدها عن نظرات الرجال حبسها
في قمة الجبل الذي يُسمى الآن بقصر البنت وكان الشيخ يسكن بنفسه عند سفح هذا الجبل .
وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي بذلها الشيخ المسن في الحفاظ على بنته بثينه إلا أنه قد نجح صانع حرفي في
رؤية الفتاة الشابة واستطاع التحدث معها ..
ثم مالبث أن أحبها وبحث معها عن وسيلة وطريقة توصله إلى مسكنها ..
استطاعت الفتاة في إحدى الليالي أن تدلي من الجبل حبلاً مجدولاً من شعرها وهكذا استطاعت أن تسحب
الصانع الحرفي إليها .. أخذ الصانع يتردد على بثينة في كل مساء تحت أجنحة الليل المظلمة ويهرب عند أول
خيط من أشعة الصباح .
ما لبثت بثينة طويلاً حتى حملت من الصانع وحتى تزيل ملل الأيام كونها وحيده في مكان معزول .. أخذت
تردد بيتين من الشعر تقول فيهما وهي خائفة من الفضيحة :
سمع الجيران ما تردده بثينه وأدركوا أن بثينة حامل من أحدهم ولم يترددوا أبداً في إخبار الحدري ..
قام الحدري بالقبض على الصانع وجاء به عند بثينه وسحبهما إلى قمة جبل قريب ، ثم مالبث أن قام بذبحهما وساح
دم العاشقان من أعلى الجبل والذي لا يزال يُشار إليه إلى الآن من قبل أهل العلا بأن هذا الدم يعود للصانع وبثينه .
وعلى ضوء هذه القصة سمي الجبل الذي يقع فيه الضريح الماثل أمامكم بقصر الصانع
قصر الصانع وتُشاهدون الدم يسيح من أعلى الضريح كما ذكرتـ لكم في القصة قبل قليل .
ويُسمى أيضاً قصر البثينة والسبب في ذلك يعود للقصة التي ذكرناها قبل قليل فلقد كانت بثينة محبوسة فوق
قمته ثم أخذت وقتلت هي وعشيقها وقتلا فوق قصر الصانع .
هذا الجبل يُعد من أروع ما قدمه وخلفه الإنسان النبطي .. فهو الأكثر روعة من ناحية السمات المعمارية
والفنية بل وحتى الاجتماعية التي عرف عنها الشيء الكثير من خلال النقوش الوفيرة التي تتقدم كل ضريح
في هذا الجبل …. في الحقيقة لا أعلم كم يبلغ عدد الأضرحة في هذا الجبل إلا أن الأكيد بأنها تتجاوز العشرين
ضريحاً تلف الجيل من كل جهاته الأربع مكونة بذلك منظراً لا يملك الزائر حياله إلا أن يقف متعجباً ومتهولاً
لعظمة ما خلفه الأنباط في قصر البنت
مجموعة الأضرحة والمقابر النبطية تُشاهدونها على قصر البنت وهي تشكل منظراً جمالياً بديعاً … كما تُلاحظون
على يسار الصورة ضريحاً ضخماً في أعلى الجبل لم يتم إكمال بناءه ولو حصل ذلك لكان أكبر حجماً من قصر
الفريد إلا أنه يبدوا والله أعلم بأن صاحبه أو النحات الذي كان يصنعه قد توفي أثناء البناء مما أجبرهم على التوقف .
هذه واحدة من أجمل المناظر في قصر البنت وهي لثلاثة قبور متجاورة تتشابه في كل سماتها المعمارية والفنية .
الذكي منكم لو ركز في هذه الصورة جيداً وحاول الإستنتاج فسوف يعرف بكل تأكيد كيف كان النحات
النبطي يقوم ببناء القبر والطريقة التي كان يتبعها في ذلك .
واحدة من المقابر في قصر البنت يظهر فيها العديد من السمات الفنية التي أعملها الفان النبطي على واجهات المقابر .
في الصورة أعلاه تُشاهدون فوق باب المقبرة نسراً فارداً لجناحيه وهذه تجدها بصورة مستمرة في كافة المقابر
النبطية وكافة هذه النسور منزوعة الرأس ولهذا قصة عجيبة في ذات الوقت
سبق للجيش أن عسكر في أوقات قديمة في منطقة الحجر ولعل الجنود يحصل بينهم شيء من التحدي في دقة
التصويب .. وبدل أن يضعوا لهم شيئاً خاصاً يقومون بتصويبه .. كانت رؤوس هذه النسور المسكينة هدفاً
رائعاً ومسلياً في نفس الوقت … والمشكلة لا تكمن في تساقط رؤوس النسور .. بل المشكلة أعظم من ذلك
بكثير .. إذ أن النقوش التي توضع كـ توثيق للمقبرة تقع فوق النسر دائماً ولو نظرتم للصورة السابقة
ستجدون ان النقش قد تأثر بالفعل . بسبب إطلاق النار .
واحدة من المقابر النبطية في قصر البنت
في هذه الصورة تُشاهدون إختلاف المستوى المعماري للمقابر النبطية حيث تتباين مظاهر الغنى والفقر وعلى
قولة القايل كل يمد لحافه على قد رجوله .
مقبرة أخرى في قصر البنتمنطقة أخرى في مدائن صالح
قد يسأل كل واحد منكم ماذا يوجد في داخل هذه القبور وهل تتمتع بطوابق متعددة
كافة المقابر النبطية في مدائن صالح لا تتجاوز بأي حال في داخلها الغرفة الواحدة وقد يزيد حجم هذه الغرفة
وقد ينقص طبقاً لصاحب القبر ومركزه الإجتماعي والإقتصادي .
كافة الصور القادمة صورتها من داخل الأضرحة النبطية في قصر البنت فقط
ستلمسون اختلافا كبيراً بين هذه الفتحات الكبيرة في الجدار وبين التوابيت الجدارية في الصور القادمة …
للأسف الشديد حاولت أن أبحث عن سبب وجود هذه الفتحات الكبيرة فلم أتمكن من إيجاد أي معلومة تتحدث
عن ذلك ….. وأعتقد والله أعلم أنها بمثابة المخازن التي يوضع فيها ما يحب الميت أن يرافقه من طعام ولباس
وكذلك أواني فخارية أو نقوش وغيرها … ولقد كان العرب يؤمنون بالبعث بعد الموت حتى أنكم لو ركزتم قليلاً
في الدرجين المتقابلين في أعلى كل مقبرة لتوقعنا جميعاً أن هذا الطراز الفني خصص لصعود الروح إلى السماء
بعد الموت ” مجرد إعتقاد “
تُلاحظون التباين الواضح في حجم التوابت الجداريه داخل الأضرحة النبطية وللعلم فإن هذه الأضرحة تخص
أسرة كاملة وقد يدفن فيها الصغير والكبير .
ولقد إشتهر هذا الجبل بالمعابد والمحاريب المنحوته بشكل رائع داخل الشق الذي ستشاهدونه ويُسمى السيق ..
وكذلك فقد إشتهر الجبل بالنقوش .. وأبرز ما في هذا الجبل .. معبداً يُسمى ديوان السلطان .. رائع في شكله
وتصميمه …. ولكم آسف لكم جميعاً فلقد فقدتُ ألبومين كاملين من الصور .. لا أعلم أين ذهبا .. وكل صور
جبل إثلب من ديوان ومحاريب وقنوات مياه ونقوش تتواجد فيهما .. إلا أنني إستطعتُ أن أجد صورة واحدة
فقط توضح لكم ولو شيئاً بسيطا من المكان الذي يقع فيه الديوان وكم أتمنى أن تتصوروا كيف قام الأنباط
بشق الجبل والذي يتم العبور من خلالها إلى منطقة معابد عديدة وقنوات مياه . بالإضافة إلى صورتين جلبتهما
لكم من موقع العلا .
الديوان تُشاهدونه على يمين الصورة والسيق أو الشق الذي يفصل جبل إثلب إلى قسمين تُشاهدونه أمامكم مباشرة .
الديوان في جبل إثلب
الديوان في جبل إثلب والصورة من موقع العلا .