الاستغفار مأخوذ من الغفر، وهو الستر والتغطية لما يكره ويخاف منه، وهو من الأمور المطلوبة للمسلم شرعاً؛ لما يترتب عليه من فوائد جمة تُظْهِر الافتقارَ إلى الله وإظهار الذل بين يديه والاعتراف بالتقصير والخلل، وذلك يؤدي إلى مغفرة الله للمستغفر وستره في الدنيا والآخرة.
ولأهمية الاستغفار في حياة المؤمنين ونفعه لهم، فإن الملائكة يستغفرون لهم ويصلون عليهم، ولذلك أثر عظيم في حياة عباد الله وهدايتهم؛ لأن الملائكة قريبون من الله حساً ومعنىً فهم حملة العرش وحوله، يذكرون الله ويطيعونه ويعبدونه بالليل والنهار وهم لا يسأمون، ولذلك يدعون الله ويستغفرون للتائبين المتبعين سبيله لعلمهم لأهمية الاستغفار والدعاء كما قال تعالى:
والاستغفار سمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم ملازمون له ويدعون إليه أبناءهم ويحضونهم عليه، وأولهم أبونا آدم عليه الصلاة والسلام وأمنا حواء لما خالفا أمر الله تعالى وأزلهما الشيطان وأوقعهما في الخطأ بادرا بالتوبة والندم فقالا: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].
وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يتحدث أن من لوازم دعوته أمرَه قومَه بالاستغفار فيقول:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) [نوح:10]، وهود عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ) [هود: 52]. وشعيب عليه الصلاة والسلام قال لقومهوَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود: 90].
وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يقولوَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:82].
وموسى عليه الصلاة والسلام يقول: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص: 16].
ويونس عليه الصلاة والسلام ينادي في الظلمات: (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
وداود عليه الصلاة والسلام يقول الله في شأنه وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص: 24].
قال تعالىفَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص: 25].
وقد كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء يعدُّ له أصحابه في المجلس الواحد «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم»، وفي رواية «إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة(الألباني رقم 556).
وها هو أفضل هذه الأمة وخيرها بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أبو بكر رضي الله عنه يسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول: يارسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي قال: قل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (البخاري (رقم 834)، ومسلم (رقم 2705)).
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتوبة والاستغفار كما قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
ألا وإن أولََ درجات السير إلى الله تعالى التوبةُ والاستغفار، ذلك أن العبد محتاج إليها في بدايته ونهايته حتى الممات. والاستغفار واجب على الدوام إما من معصية أو من النية بها، أو ترك واجب وتهاون به أو من وسواس الشيطان، أو تقصير أو جهل، ولو خلا من ذلك لم يخل من غينه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغان على قلبي»(مسلم (رقم 2702) والناس يتفاوتون في ذلك بين مستقل ومستكثر.
واعلم وفقك الله أن الاستغفار طلب المغفرة والعفو من الله سبحانه، وهو مستلزم للتوبة ومتضمن لها؛ لأن الاستغفار بلا توبة كذب وادعاء، فلا استغفار بلا ندم كما لا توبة بلا ندم، وقد قيل: كفارة الذنب الندم. والتوبة تصح ولو عاد المستغفر في اليوم سبعين مرة بشرط الندم على كل مرة، قال الفضيل رحمه الله: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وعن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: «المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه».
إذاً الاستغفار يتعلق بالتوبة تعلقاً وثيقاً، وقد يفرق بينهما فيقال: الاستغفار طلب وقاية شر ذنب قد مضى مع الندم، والتوبة طلب وقاية شر ذنب قد حضر مع الندم والعزم على عدم العودة والإقلاع عن الذنب.
والاستغفار دعاء، بل هو من أعظم الدعاء لأنه طلب من العبد فيما لا يقدر عليه إلا الرب، فهو طلب المغفرة من الله أن يقيه شر ذنوبه بمحوها وإذهاب أثرها، فإذا غفر الله لعبده حصل له كل ما يرجوه وبعد عنه كل ما يحذره، فالاستغفار عبادة يحبها الله من عباده وشرعها لهم تفضلاً منه وإنعاماً ليكفر عنهم سيئاتهم ويمحوها.
أنواع الاستغفار:
الاستغفار له أنواع منها:
1 ــ الاستغفار والتوبة من الشرك والكفر، وهذه ترفع إلى مستوى الإيمان.
2 ــ الاستغفار والتوبة من الكبائر، وهي ترفع إلى بعض درجات التقوى.
3 ــ الاستغفار والتوبة من الصغائر، وهي ترفع إلى أعلى درجات التقوى.
4 ـ الاستغفـار والتوبــة من فعــل المكروهات والتهاون بالمندوبات، وهي ترفع إلى درجة البر.
5 ــ الاستغفار والتوبة من الغفلات عن ذكر الله والاشتغال بغيره، وهي ترفع إلى درجة المقربين.
والاستغفار لا يبرر الذنب، فهناك من الناس من جعل الاستغفار قنطرته إلى فعل المعاصي واقتحام المحرمات، فمنهم من يقبل على المنكرات ويشارك فيها ثم يقول: أنا وحالي كذلك لساني يستغفر ربي، ومنهم من يفري في أعراض الناس فيقدم بالاستغفار ويختم بالاستغفار، فيجعله مبرراً لنفسه الأمارة بالسوء باقتراف المعاصي، وهذا العمل إما أن يكون استخفافاً بحرمات الله واستهتاراًَ، أو كذباً على الله كما قال سبحانه أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].
شروط قبول الاستغفار: 1 ــ صحة النية.
2 ــ التوجه بندم وعزم إلى الله تعالى مع الأدب معه.
ولابد في الاستغفار أيضاً من إقلاع صادق عن الذنب والمعصية، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135]، ففي هذه الآية خمس دلالات على أن المعصية كانت طارئة:
(إذا فعلوا) في غفلة عن ذكر الله (ذكروا الله) وبعد ذكر الله سارعوا بالاستغفار والتوبة (فاستغفروا) دل على ذلك (الفاء) ثم أقلعوا عنها ولم يداوموا عليها يدل عليه قوله سبحانه (ولم يصروا) لأنهم علموا أنها معصية (وهم يعلمون) لأن العبد إذا علم قبح ذنبه فندم واستغفر، غفر الله له مهما كان ذنبه عظيمــاً، لأن عفــو الله أعظــم ورحمتــه أوسـع، قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء: 110]، وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقــول: «قـال الله تعــالى: يــاابــن آدم إنـــك مـــا دعـــوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، ياابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة»( الترمذي (رقم 3540)، ومعنى قوله: ولا أبالي، أي لا يتعاظمني كثرتها ولو كثرت.
ففي هذا الحديث بيان سعة رحمة الله كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وقد جعل سبحانه الاستغفار علاجاً لكثير من المشكلات اليومية التي تداهم الإنسان في حياته صباحاً ومساءً، وما ذاك إلا لأن الاستغفار له مكانة عظيمة في الإسلام، وهو من أهم الأمور التي ينبغي للمسلم أن يعتني بها ويحافظ على العمل بها؛ لأن المستغفر معترف بذنبه يقر به، معترف بربه وأنه لا ملجأ ولا منجا إلا الله، راغب وملتجئ وضارع إليه سبحانه، والله تعالى يحب من عبده الخضوع له والتذلل بين يديه.
فوائد الاستغفار وثمراته:
1 – الاستغفار سبب لبياض القلب وصفائه ونقائه:
وسبب لقوة القلب وانشراحه وحفظ نوره، فالذنوب تترك أثراً سيئاً وسواداً على القلب، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذاك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن بقوله سبحانه: ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]، قال ابن القيم رحمه الله: (من أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله والغفلة عن ذكره) ولا يزال الاستغفار الصادق بالقلب حتى يرده بالصحة والسلامة.
2 – الاستغفار أمان من عذاب الله:
أنزل الله أمانان على عباده إن هم حافظوا على الاستغفار وأكثروا منه عازمين على ترك المعاصي، قال أبو موسى الأشعري: «قد كان فيكم أمانان وذكر قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى، وأما الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
3 – الاستغفار يسهل الطاعات ويعطي حلاوة للطاعة:
وبهذا قال الحسن البصري رحمه الله: «إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب».
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب»( والترمذي (رقم 3334)).
7 – الاستغفار تأسٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم: لأنه كان يستغفر الله في المجلس الواحد سبعين مرة، وفي رواية مائة مرة.
8 – الاستغفار ييسر العلم:
لأن القلب له نور، ويزداد نوراً وتوهجاً ويصقل كلما استغفر العبد ربه وتاب وأناب، والمعصية تفعل ضد ذلك، يقول ابن تيمية رحمه الله: إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحالة التي تشكل علي فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أقل أو أكثر حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل، وقد أكون في المسجد أو المدرسة أو السوق ولا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي. والمعصية تحرم من نور العلم وقد جاء الشافعي إلى الإمام مالك فأعجب بذكائه وفطنته فقال له: «إني أرى الله قد ألقى في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية».
فتمحى أثر الذنوب، وذلك أن التوبة تمحي ما قبلها من الذنوب، ويبقى التضرع والاستغفار حسنات بدل ما يمحى من ذلك من تلك السيئات والله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فكلما تذكر العبد الذنب الذي تاب منه وندم واستغفر كتبت له حسنة جديدة فيكون ذلك الذنب سبباً لحسنات كثيرة حتى يقول الشيطان: ياليتني تركته ولم أوقعه، وكما قال ابن عباس رضي الله عنه: «إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق» وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه: «ما عمل رجلٌ عملاً إلا ألبسه الله تعالى رداءه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر»، يقول الله سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114]. ويقول صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»( )، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له( ) ثم قرأ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].
فالعباد محتاجون إلى الاستغفار حاجة ماسة لأنهم يخطئون بالليل والنهار، فإذا استغفروا الله غفر لهم. شكا رجل إلى الحسن الذنوب فقال: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال: استغفر الله وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله فقيل له في ذلك فقال: ما قلت ذلك من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) [نوح: 10 ــ 12].
عدل سابقا من قبل jeje في الإثنين أكتوبر 27, 2008 2:55 pm عدل 1 مرات
الاستغفار مطلوب الإكثار منه في كل الأحوال وعلى الدوام، من كبار الذنوب وصغارها، ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لي ذنبي كلّه أوله وآخره، دقه وجله، سره وعلانيته»(مسلم (رقم 483))، والاستغفار مطلوب حتى في الوقت الذي لا يذنب فيه العبد وذلك من غفلته وقلة ذكر الله، أو فتوره عن طاعة الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»(مسلم (رقم 2702))، والغان معناه: غفلات العبد عن مداومة الذكر الذي لا يخلو منه بشر؛ لأنه قد يمارس بعض وجوه الحياة التي تلهيه عن مداومة ذكر ربه.
والاستغفار مطلوب أيضاً عن ترك الحسنات، فالاستغفار ليس عن فعل المعاصي والقبائح فقط بل الاستغفار من ترك الحسنات المأمور بها ومن التقصير.
وفي الدعاء: «أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل ومما علمت ومما لم أعلم»، قال أبو سليمان الداراني: لو لم يبكِ العامل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة، لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات.
مواضع الاستغفار:
للاستغفار مواطن ينبغي العناية بها والاهتمام بشأنها، فالاستغفار مشروع في كل وقت، إلا أن هناك أوقاتا وأحوالاً مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثاً؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو، كما شـرع الاستغفـار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) [الذاريات: 17 ــ 18]، وقال تعالى الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ[آل عمران: 17]. وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها، قال تعالى ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 199]. وشرع الاستغفار في ختم المجالس، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»(الترمذي (رقم 3433))، فإن كان مجلس خير وذكر كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، وشرع الاستغفار عند الخروج من الخلاء: «غفرانك»(الترمذي (رقم 7))، وشرع الاستغفار في ختام العمر وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عند اقتراب أجله: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)) [النصر: 1 ــ 3]، فقد جعل الله فتح مكة ودخول الناس في دين الله علامة على قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره عند ذلك بالاستغفار.
ومن صيغ الاستغفار: أستغفر الله، سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره وسره وعلانيته، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
سيد الاستغفار:
وقد جاء في السنة ذكر شيء من هذه الصيغ أيضاً فمن ذلك: سيد الاستغفار: وهو: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»(البخاري (رقم 6306)).
قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يُسمىَ سيدَ الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
استغفار السلف الصالح:
روي عن لقمان أنه قال لابنه: «عود لسانك: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً».
وقالت عائشة رضي الله عنها: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً» (الألباني في صحيح الجامع (رقم 3930).
وقال قتادة: «إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار».
وقال أبو النهل: «ما جاور عبد في قبره مِنْ جارٍ أحب من الاستغفار».
وقال الحسن: «أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة».
وقال أعرابي: «من أقام في أرضنا فليكثر من الاستغفار، فإن مع الاستغفار القطار» والقطار السحاب العظيم القطر. وقال علي: «العجب ممن يهلك ومعه النجاة! قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار».
وقال بعضهم: «العبد بين ذنب ونعمة، لا يصلحها إلا الحمد والاستغفار».
ومن الآثار قصة الحسن البصري مع الحمال فقد استأجر الحسن رحمه الله حمالاً فسمعه يقول: «الحمد لله وأستغفر الله» طول الطريق فقال له الحسن البصري ما هذا إنك لا تحسن غير هذا الكلام؟ فقال إني أحفظ نصف القرآن ولكني أعلم أن العبد بين أمرين بين نعمة نازلة عليه من الله وجب عليه حمده، وبين ذنب فيه صاعداً إليه وجب عليه استغفاره، لهذا أنا أقول دائماً وأبداً «الحمد لله وأستغفر الله» فقال الحسن حمالاً أفقه منك ياحسن، فالمقصود أن الاستغفار ينفع قبل الذنب وبعد الذنب، وفي الأثر أن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك منهم أهلكتهم بالإغواء والأهواء وهم يحسبون أنهم مهتدون، فالحذر الحذر من اتباع الهوى.
وما سمي الهوى إلا أنه يهوي بصاحبه إلى قعر جهنم، ولأن الهوى يصد عن الحق ويصر به على ذنوبه، فلا يستغفر ولا يتوب، فتصعد صحيفته إلى الله سوداء مظلمة، أما إذا قرنت بالتوبة والاستغفار فإنها تصعد إلى الله بيضاء نقية، وذلك ما قاله أبو بكر المزني رحمه الله: إن أعمال بني آدم ترفع فإذا رفعت صحيفة فيها استغفار رفعت بيضاء، وإذا رفعت صحيفة ليس فيها استغفار رفعت سوداء، فطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً. ومن حُرِمَ الاستغفار فهو من علامة الخذلان والاستدراج الذي هو تقريب للعبد من العقوبة شيئاً فشيئاً، فكلما جدد ذنباً جدد له نعمة وأنساه الاستغفار، فيزداد شراً وبطراً، فيندرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظاناً أن تواترها تقريب من الله وإنما هو خذلان، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج»( الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 413)).
المصادر: التوبة والاستغفار والاستغفار لشيخ الإسلام ابن تيمية - الاستغفار، مصطفى العدوي - تحفة الأبرار بشرح حديث سيد الاستغفار لأبي عبدالرحمن فواز أحمد زمرلي - موسوعة نضرة النعيم في أخلاق النبي الكريم، بإشراف الدكتور صالح بن حميد - نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار، للشيخ أبي العون محمد بن أحمد السفاريني.
منقوووول
المتفائله عميــدة الأقسام نائب المشرف العام علي منتديات عائلة العراقي المكيه
عدد الرسائل : 16919 العمر : 64 العمل/الترفيه : عمـيـدة الأقســــام مزاجي : رقم العضوية : العضوية العراقيه من الطبقة الأولي تاريخ التسجيل : 14/08/2008
وقد جاء في السنة ذكر شيء من هذه الصيغ أيضاً فمن ذلك: سيد الاستغفار: وهو: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»(البخاري (رقم 6306)).
قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يُسمىَ سيدَ الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقد جاء في السنة ذكر شيء من هذه الصيغ أيضاً فمن ذلك: سيد الاستغفار: وهو: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»(البخاري (رقم 6306)).
قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يُسمىَ سيدَ الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.